إذا ما قورن بوضع البحث العلمي العربي فإنه الأسوأ. و إذا ما قورن بالمصروفات التي أنفقت عليه و مردودها فإن الأمر مخز و مخجل.. و إذا ما قارناه بالبحث العلمي على المستوى الدولي وما يقدمه من حلول و ارشاد على المستوى المحلي والخارجي فإنه يكاد يكون معدوما. و يبدو إنه نتيجة لعدم علاقة الجمهور المباشرة بهذا المجال، فإن الأمر يبقى مسكوتاً عليه رغم كل ما يمر به من تعثر و إهمال وتبذير وعدم قدرة على السير به الى تحقيق المراد منه و مساهمته في دفع عجلة التنمية و معالجة المشاكل المحلية و إيجاد الحلول الناجعة والملائمة لها و توطين التقنية و اكتساب المعارف الجديدة التي تضفي بعداً جديداً لحياة المجتمع الذي يرغب في أن يكون مواكباً لكل متطلبات العصر وعلومه.
و في ليبيا أنشئت العديد من المراكز البحثية و المؤسسات المختلفة لغرض المساهمة في نهضة المجتمع و معالجة المشاكل التي تعترض أولويات التنمية و محاولة إيجاد الحلول لكل ظروف البيئة المحلية و ما يساعد في تلبية مطالب المجتمع المختلفة. و كذلك إيجاد السبل الكفيلة بتوطين التقنية و تكييف العلوم حتى تلائم البيئة المحلية وتساعد على مد العاملين بالقطاعات المختلفة بالمعلومات و التطبيقات التي تساعدهم في زيادة الإنتاج و توفير المال والوقت والجهد.
لكن هذا الاتجاه نحو بناء قاعدة علمية و بحثية سليمة غابت عنه الكثير من المعطيات التي تجعل منه قطاعاً فاعلاً و نشطاً في مواكبة كل مراحل التنمية والتقدم و في كافة المجالات التي تعجل بتقليص الهوة بين المجتمعات النامية و المتقدمة. و لم توضع استراتيجيات محددة بجداول زمنية قابلة للتحوير وفق ما تمليه الظروف و ما يستجد من علوم و ما يطرأ على البيئة المحلية من تغيرات. و قد غابت الرؤى الإستشرافية التي تحدد رسالة كل منظمة بالتفصيل و ووفق جداول زمنية دقيقة حتى لا يكون البحث العلمي مجرد ملء للفراغ أمام ما يحدث عند الدول الأخرى التي ترى فيه أحدى الوسائل الكبيرة للنهوض بالمجتمع و مده بالعلوم والتقنيات و الاختراعات و الابتكارات التي تجعل منه مجتمعاً أفضل بسبب هذه الوسائل المتقدمة.
وواقع البحث العلمي في ليبيا كان و لا يزال ضحية الأساليب التي تمت ويتم بها إدارة هذا القطاع و الفشل في توفير قدرات ومهارات بشرية قادرة على القيام بما يتطلبه هذا القطاع من معرفة بأساليب إدارته و السير به وفق مراحل محددة تتيح له الكفاءة و الفاعلية التي لابد منها لنجاح أي عمل أو مشروع. و يأتي في مقدمة ذلك المهارات الإدارية التي تجيد إدارة العمل البحثي وقدرتها على القيادة و المهارة التي لابد أن تتوفر لكل من يريد المساهمة في إدارة البحوث والتطوير. و بطبيعة الحال تختلف إدارة البحث العلمي عن غيره من المشاريع الأخرى سواء أكانت إنتاجية أو خدمية و فكرية. ويعتقد البعض أن إدارة البحث العلمي لا تختلف عن غيرها من الإدارات الأخرى في الوقت الذي ينبغي فيه التفريق بين النظر الى البحث العلمي من ناحية إدارية و من ناحية بحثية.
و جل القيادات التي أدارت هذه المراكز و المؤسسات البحثية كانت لها ارتباطات سياسية، كانت السبب الرئيسي في توليها قيادة هذه المؤسسات البحثية. و في أغلب الأحوال لم يكن من السهل تولي قيادة هذه المؤسسات ما لم تكن من الموثوق بهم و الذين يؤمنون بفكر النظام و توجهاته الفكرية و السياسية. و بالتالي فإن أي فشل في قيادة هذه المؤسسات ليس هناك من يحاسب عليه أو يهتم به، و يبقى الولاء للنظام هو القاعدة الثمينة للاستمرار في قيادة تلك المؤسسات حتى لو أدركوا مفاصل الخلل والقصور الذي يعتري هذه المؤسسات.هذا الأمر فوت فرصاً كثيرة للإصلاح ولم يكن بالمقدور تغيير سياسات هذه المنظمات و إظهار أوجه الخلل والقصور في عملها و أدائها. و بالتالي حرم الكثير من الباحثين فرص التطوير والتغيير و جعلهم يبحثون عن بدائل أخرى أو يرضون بالواقع مثلما هو دون أن يكون لهم أية مساهمة في الإصلاح والتغيير.
من ناحية أخرى الطريقة التي يدار بها العمل البحثي نفسه و عدم إيجاد التعاون والتنسيق بين هذه المراكز و المؤسسات البحثية رغم أن جميعها مؤسسات عامة. و التقوقع الذي يجعل كل مؤسسة بحثية لا ترتبط مع المؤسسات الأخرى و تتعاون معها و تتكامل في استخدام الأجهزة و تبادل الخبرات و التشاور و المشاركة في أعمال بحثية مشتركة تدعم العمل البحثي و تدفع به الى آفاق جديدة. و يأتي هذا الخلل من القيادات الإدارية التي تدير هذه المؤسسات و عدم رغبتها في التواصل مع بعضها و البحث عن السبل التي تحقق الأغراض التي أنشئت من أجلها هذه المؤسسات البحثية. و في غالب الأحوال لا توجد منظومات تكاملية بين هذه المراكز بحيث يتم التعرف من خلالها على ما تملكه المؤسسات الأخرى و كيف يمكن الاستفادة من هذه الإمكانيات و الوسائل المتاحة عند هذا المركز أو ذاك.
نقطة أخرى مهمة وهي الطريقة التي يتم بها العمل البحثي حيث نجد أن أغلب الذين تعلموا و تدربوا و نالوا المؤهلات العليا في الخارج عادوا و لم يبحثوا و يؤسسوا لمجموعات وفرق بحثية يقودونها، بل اتجهوا مباشرة الى العمل الإداري والبحث عن الوظائف الإدارية تاركين كل ما تعلموه وقضوا فيه سنوات خلفهم دون عناء و تفكير. و يكون ذلك لسببين رئيسيين أولاهما: الزهد في العمل البحثي وعدم الرغبة في مواصلته بعد العودة و عدم القناعة بتأسيس فرق بحثية يوطنون من خلاله ما تعلموه من خبرات و علوم في البلدان التي أتوا منها. و السبب الثاني هو ربما عدم القدرة على القيام بأعمال بحثية وقيادة فرق يشرفون عليها و يتصدون لكافة المشاكل و المعوقات التي قد تقابلهم. و من الأسباب الأخرى هو النظر الى الوظائف الإدارية على أنها فرصة للحصول على مكاسب قد لا تتوفر أثناء القيام بالعمل البحثي لوحده.
و تحصل أثناء العمل البحثي الدعوة الى الكثير من المؤتمرات و الندوات و ورش العمل بعضها محلي و بعضها خارجي و يتم الدعوة لجميع الباحثين للمشاركة في هذه المؤتمرات وعرض ما لديهم من آفاق جديدة في مجال البحث والتطوير. ولكن ما يحصل في أغلب الأحوال أن تكون هذه المؤتمرات مجرد فرصة للقاء والتعارف و قضاء بعض الأيام في الاستماع الى بحوث و دراسات دون الاستفادة منها فيما بعد. و تنقسم البحوث عادة الى بحوث أساسية و تطبيقية و تنفرد كل بخصائصها و مدى الاستفادة الآنية أو المتأخرة منها. و في العادة تكون هذه المؤتمرات وسيلة لتبادل الخبرات و الآراء بين الباحثين و التنسيق لأعمال مشتركة فيما بعد. غير أنه و من الملاحظ أن يترك كل ما قيل في المؤتمرات عندما لا تجد من يوظف تلك النشاطات في أعمال مستقبلية من شأنها الرفع من مستوى البحث العلمي والتقني و يترك أصحاب القرار الفرصة في الدفع بمؤسساتهم الى التقدم والنمو و المشاركة في صنع مستقبل أفضل لمؤسساتهم البحثية.
و لا ننسى أن كل مقومات العمل البحثي في الدول النامية على الأخص لا زالت تخضع لسلبيات الاعتماد على الخارج في كل شئ تقريبا. فنجد أن كل الأجهزة والمعدات و المعامل يتم استيرادها من الخارج و تخضع في بعض الأحوال الى شروط البائع و معرفة أهداف الاستخدام. و القصور الكبير من الجهات الموردة في وضع شروطها التي تكفل الشراء و التركيب و التدريب والصيانة و نقل وتوطين التقنية. و يكون عادة مربوطاً بتواطؤ الجهات المتعاقدة التي تبحث عن مدى الاستفادة الشخصية من هذه الصفقات و ما تجنيه من وراء هذه العقود. و تدرك معظم الشركات هذه المسائل و لديها الخبرة الكافية التي تمكنها من الوصول الى موافقات المسؤولين الذين لا هم لهم إلا ما يصل الى جيوبهم وهم في غاية السعادة.
الجانب الآخر هو أن كل المنشورات العالمية تعتمد النشر بلغات أكثر انتشاراً مثل الإنجليزية والفرنسية و الأسبانية وغيرها من اللغات الأخرى الأكثر علاقة بمجالات البحث العلمي. و تعاني اللغة العربية من الإهمال الشديد حتى في مواطنها. وكم من مرة يكون هناك مؤتمراً في دولة ناطقة بالعربية و لا تجد بحثاً واحداً منشوراً باللغة العربية. إنها عقدة "الخواجة"التي حرمت الباحث من الاعتزاز بلغته و محاولة الدفع بها حتى تصبح في يوماً من الأيام رافداً من روافد النشر و تعزز فرصة التكيف في نشر الأبحاث باللغة العربية و منها القدرة على جعل هذه اللغة لغة قادرة على استيعاب كل العلوم. و لو أستمر هذا الحال فلن تتمكن العربية يوماً من أخذ مكانها الى جانب اللغات الأخرى رغم أنها كانت في يوماً من الأيام هي لغة العلوم و الحضارة.
نقطة أخرى تهم البحث العلمي متمثلة في عدم قدرة الباحثين على العمل الجماعي مثلما يحدث في الدول المتقدمة، حيث نجد أن البحث العلمي في البلدان النامية يقوم في أغلبه على مجهودات و مبادرات فردية و تكون في العادة متواضعة و لا ترقى الى مستوى عمل بحثي قد يؤدي الى نتائج كبيرة تكون الاستفادة منها واعدة. و لا يتم تقسيم العمل البحثي و إشراك مجموعات متخصصة في كل جانب منه حتى يأتي متكاملاً في صيغته النهائية و يحقق أهداف المؤسسة و رسالتها التي أنشئت من أجلها. و يشكو معظم الباحثين من عدم وجود القادة الراعين للبحث العلمي والذين يمكنهم تذليل الصعاب المختلفة الإدارية و المالية والفنية والعلمية. كما لا ننسى أن الباحث يحتاج الى من يقف معه و يشجعه و يأخذ بيده حتى ترتفع لديه درجة الحماس و التألق و الاندفاع نحو تحقيق شئ قد يكون فاتحة علمية وسبق علمي كبير يخدم به وطنه و أمته و يساهم في صنع مستقبل أفضل للحياة على هذا الكوكب الذي نعيش عليه.
إن ثقافة العلم و مراكز الأبحاث تمثل مكوناً جوهرياً لطبيعة الدولة والمجتمع. و أي مجتمع يغفل عن ذلك فمصيره التبعية و الاستغلال و ربما حتى العبودية للطرف الأقوى الذي عرف أن العلم هو السبيل الكبير للوصول الى القوة و المنعة. إن النهضة العلمية و التقنية لن تحصل في غياب الإستراتيجية الوطنية الشاملة لمواجهة التحديات التي تقابل المجتمع سواء كان ذلك في ظروف البيئة المحيطة و شح المياه الصالحة للشرب واستيعاب الطاقات البشرية المتنقلة بين المدن و البطالة المتفاقمة والنسب العالية من الأمية و الظروف الاقتصادية و ندرة الموارد. و ليس الحل بإنشاء مؤسسات و مراكز بأبنية فخمة و تأثيث عال و تجهيزات تقنية حديثة و ليس في استيراد التكنولوجيا المتقدمة، وإنما في نهضة حضارية تنموية مدروسة تنبع من احتياجات البيئة المحلية و تحقق ما يصبو اليه كافة أفراد المجتمع.
و يجب التأكيد على نشر الثقافة و المعرفة و التقنية المعلوماتية ويجب الاهتمام الكبير بالعقول و تطوير البحث العلمي وذلك من خلال توفير بنيته التحتية التي تبدأ بالعقل المنظم مروراً بالمؤسسات البحثية وانتهاء بالتقنيات الضرورية و ربطها بحاجات المجتمع التنموية. و الضرورة تقتضي أن تنزع الأمة عنها فكرة عدم القدرة التي أصبحت وسيلة لإخماد حيويتها و شدها الى الوراء. و الأمم تنبع قوتها من إرادتها وتلك هي العبرة الأكبر عبر كل الأزمنة قديماً وحديثا.
عثمان محسن عثمان
صحيفة الوطن الليبية
و في ليبيا أنشئت العديد من المراكز البحثية و المؤسسات المختلفة لغرض المساهمة في نهضة المجتمع و معالجة المشاكل التي تعترض أولويات التنمية و محاولة إيجاد الحلول لكل ظروف البيئة المحلية و ما يساعد في تلبية مطالب المجتمع المختلفة. و كذلك إيجاد السبل الكفيلة بتوطين التقنية و تكييف العلوم حتى تلائم البيئة المحلية وتساعد على مد العاملين بالقطاعات المختلفة بالمعلومات و التطبيقات التي تساعدهم في زيادة الإنتاج و توفير المال والوقت والجهد.
لكن هذا الاتجاه نحو بناء قاعدة علمية و بحثية سليمة غابت عنه الكثير من المعطيات التي تجعل منه قطاعاً فاعلاً و نشطاً في مواكبة كل مراحل التنمية والتقدم و في كافة المجالات التي تعجل بتقليص الهوة بين المجتمعات النامية و المتقدمة. و لم توضع استراتيجيات محددة بجداول زمنية قابلة للتحوير وفق ما تمليه الظروف و ما يستجد من علوم و ما يطرأ على البيئة المحلية من تغيرات. و قد غابت الرؤى الإستشرافية التي تحدد رسالة كل منظمة بالتفصيل و ووفق جداول زمنية دقيقة حتى لا يكون البحث العلمي مجرد ملء للفراغ أمام ما يحدث عند الدول الأخرى التي ترى فيه أحدى الوسائل الكبيرة للنهوض بالمجتمع و مده بالعلوم والتقنيات و الاختراعات و الابتكارات التي تجعل منه مجتمعاً أفضل بسبب هذه الوسائل المتقدمة.
وواقع البحث العلمي في ليبيا كان و لا يزال ضحية الأساليب التي تمت ويتم بها إدارة هذا القطاع و الفشل في توفير قدرات ومهارات بشرية قادرة على القيام بما يتطلبه هذا القطاع من معرفة بأساليب إدارته و السير به وفق مراحل محددة تتيح له الكفاءة و الفاعلية التي لابد منها لنجاح أي عمل أو مشروع. و يأتي في مقدمة ذلك المهارات الإدارية التي تجيد إدارة العمل البحثي وقدرتها على القيادة و المهارة التي لابد أن تتوفر لكل من يريد المساهمة في إدارة البحوث والتطوير. و بطبيعة الحال تختلف إدارة البحث العلمي عن غيره من المشاريع الأخرى سواء أكانت إنتاجية أو خدمية و فكرية. ويعتقد البعض أن إدارة البحث العلمي لا تختلف عن غيرها من الإدارات الأخرى في الوقت الذي ينبغي فيه التفريق بين النظر الى البحث العلمي من ناحية إدارية و من ناحية بحثية.
و جل القيادات التي أدارت هذه المراكز و المؤسسات البحثية كانت لها ارتباطات سياسية، كانت السبب الرئيسي في توليها قيادة هذه المؤسسات البحثية. و في أغلب الأحوال لم يكن من السهل تولي قيادة هذه المؤسسات ما لم تكن من الموثوق بهم و الذين يؤمنون بفكر النظام و توجهاته الفكرية و السياسية. و بالتالي فإن أي فشل في قيادة هذه المؤسسات ليس هناك من يحاسب عليه أو يهتم به، و يبقى الولاء للنظام هو القاعدة الثمينة للاستمرار في قيادة تلك المؤسسات حتى لو أدركوا مفاصل الخلل والقصور الذي يعتري هذه المؤسسات.هذا الأمر فوت فرصاً كثيرة للإصلاح ولم يكن بالمقدور تغيير سياسات هذه المنظمات و إظهار أوجه الخلل والقصور في عملها و أدائها. و بالتالي حرم الكثير من الباحثين فرص التطوير والتغيير و جعلهم يبحثون عن بدائل أخرى أو يرضون بالواقع مثلما هو دون أن يكون لهم أية مساهمة في الإصلاح والتغيير.
من ناحية أخرى الطريقة التي يدار بها العمل البحثي نفسه و عدم إيجاد التعاون والتنسيق بين هذه المراكز و المؤسسات البحثية رغم أن جميعها مؤسسات عامة. و التقوقع الذي يجعل كل مؤسسة بحثية لا ترتبط مع المؤسسات الأخرى و تتعاون معها و تتكامل في استخدام الأجهزة و تبادل الخبرات و التشاور و المشاركة في أعمال بحثية مشتركة تدعم العمل البحثي و تدفع به الى آفاق جديدة. و يأتي هذا الخلل من القيادات الإدارية التي تدير هذه المؤسسات و عدم رغبتها في التواصل مع بعضها و البحث عن السبل التي تحقق الأغراض التي أنشئت من أجلها هذه المؤسسات البحثية. و في غالب الأحوال لا توجد منظومات تكاملية بين هذه المراكز بحيث يتم التعرف من خلالها على ما تملكه المؤسسات الأخرى و كيف يمكن الاستفادة من هذه الإمكانيات و الوسائل المتاحة عند هذا المركز أو ذاك.
نقطة أخرى مهمة وهي الطريقة التي يتم بها العمل البحثي حيث نجد أن أغلب الذين تعلموا و تدربوا و نالوا المؤهلات العليا في الخارج عادوا و لم يبحثوا و يؤسسوا لمجموعات وفرق بحثية يقودونها، بل اتجهوا مباشرة الى العمل الإداري والبحث عن الوظائف الإدارية تاركين كل ما تعلموه وقضوا فيه سنوات خلفهم دون عناء و تفكير. و يكون ذلك لسببين رئيسيين أولاهما: الزهد في العمل البحثي وعدم الرغبة في مواصلته بعد العودة و عدم القناعة بتأسيس فرق بحثية يوطنون من خلاله ما تعلموه من خبرات و علوم في البلدان التي أتوا منها. و السبب الثاني هو ربما عدم القدرة على القيام بأعمال بحثية وقيادة فرق يشرفون عليها و يتصدون لكافة المشاكل و المعوقات التي قد تقابلهم. و من الأسباب الأخرى هو النظر الى الوظائف الإدارية على أنها فرصة للحصول على مكاسب قد لا تتوفر أثناء القيام بالعمل البحثي لوحده.
و تحصل أثناء العمل البحثي الدعوة الى الكثير من المؤتمرات و الندوات و ورش العمل بعضها محلي و بعضها خارجي و يتم الدعوة لجميع الباحثين للمشاركة في هذه المؤتمرات وعرض ما لديهم من آفاق جديدة في مجال البحث والتطوير. ولكن ما يحصل في أغلب الأحوال أن تكون هذه المؤتمرات مجرد فرصة للقاء والتعارف و قضاء بعض الأيام في الاستماع الى بحوث و دراسات دون الاستفادة منها فيما بعد. و تنقسم البحوث عادة الى بحوث أساسية و تطبيقية و تنفرد كل بخصائصها و مدى الاستفادة الآنية أو المتأخرة منها. و في العادة تكون هذه المؤتمرات وسيلة لتبادل الخبرات و الآراء بين الباحثين و التنسيق لأعمال مشتركة فيما بعد. غير أنه و من الملاحظ أن يترك كل ما قيل في المؤتمرات عندما لا تجد من يوظف تلك النشاطات في أعمال مستقبلية من شأنها الرفع من مستوى البحث العلمي والتقني و يترك أصحاب القرار الفرصة في الدفع بمؤسساتهم الى التقدم والنمو و المشاركة في صنع مستقبل أفضل لمؤسساتهم البحثية.
و لا ننسى أن كل مقومات العمل البحثي في الدول النامية على الأخص لا زالت تخضع لسلبيات الاعتماد على الخارج في كل شئ تقريبا. فنجد أن كل الأجهزة والمعدات و المعامل يتم استيرادها من الخارج و تخضع في بعض الأحوال الى شروط البائع و معرفة أهداف الاستخدام. و القصور الكبير من الجهات الموردة في وضع شروطها التي تكفل الشراء و التركيب و التدريب والصيانة و نقل وتوطين التقنية. و يكون عادة مربوطاً بتواطؤ الجهات المتعاقدة التي تبحث عن مدى الاستفادة الشخصية من هذه الصفقات و ما تجنيه من وراء هذه العقود. و تدرك معظم الشركات هذه المسائل و لديها الخبرة الكافية التي تمكنها من الوصول الى موافقات المسؤولين الذين لا هم لهم إلا ما يصل الى جيوبهم وهم في غاية السعادة.
الجانب الآخر هو أن كل المنشورات العالمية تعتمد النشر بلغات أكثر انتشاراً مثل الإنجليزية والفرنسية و الأسبانية وغيرها من اللغات الأخرى الأكثر علاقة بمجالات البحث العلمي. و تعاني اللغة العربية من الإهمال الشديد حتى في مواطنها. وكم من مرة يكون هناك مؤتمراً في دولة ناطقة بالعربية و لا تجد بحثاً واحداً منشوراً باللغة العربية. إنها عقدة "الخواجة"التي حرمت الباحث من الاعتزاز بلغته و محاولة الدفع بها حتى تصبح في يوماً من الأيام رافداً من روافد النشر و تعزز فرصة التكيف في نشر الأبحاث باللغة العربية و منها القدرة على جعل هذه اللغة لغة قادرة على استيعاب كل العلوم. و لو أستمر هذا الحال فلن تتمكن العربية يوماً من أخذ مكانها الى جانب اللغات الأخرى رغم أنها كانت في يوماً من الأيام هي لغة العلوم و الحضارة.
نقطة أخرى تهم البحث العلمي متمثلة في عدم قدرة الباحثين على العمل الجماعي مثلما يحدث في الدول المتقدمة، حيث نجد أن البحث العلمي في البلدان النامية يقوم في أغلبه على مجهودات و مبادرات فردية و تكون في العادة متواضعة و لا ترقى الى مستوى عمل بحثي قد يؤدي الى نتائج كبيرة تكون الاستفادة منها واعدة. و لا يتم تقسيم العمل البحثي و إشراك مجموعات متخصصة في كل جانب منه حتى يأتي متكاملاً في صيغته النهائية و يحقق أهداف المؤسسة و رسالتها التي أنشئت من أجلها. و يشكو معظم الباحثين من عدم وجود القادة الراعين للبحث العلمي والذين يمكنهم تذليل الصعاب المختلفة الإدارية و المالية والفنية والعلمية. كما لا ننسى أن الباحث يحتاج الى من يقف معه و يشجعه و يأخذ بيده حتى ترتفع لديه درجة الحماس و التألق و الاندفاع نحو تحقيق شئ قد يكون فاتحة علمية وسبق علمي كبير يخدم به وطنه و أمته و يساهم في صنع مستقبل أفضل للحياة على هذا الكوكب الذي نعيش عليه.
إن ثقافة العلم و مراكز الأبحاث تمثل مكوناً جوهرياً لطبيعة الدولة والمجتمع. و أي مجتمع يغفل عن ذلك فمصيره التبعية و الاستغلال و ربما حتى العبودية للطرف الأقوى الذي عرف أن العلم هو السبيل الكبير للوصول الى القوة و المنعة. إن النهضة العلمية و التقنية لن تحصل في غياب الإستراتيجية الوطنية الشاملة لمواجهة التحديات التي تقابل المجتمع سواء كان ذلك في ظروف البيئة المحيطة و شح المياه الصالحة للشرب واستيعاب الطاقات البشرية المتنقلة بين المدن و البطالة المتفاقمة والنسب العالية من الأمية و الظروف الاقتصادية و ندرة الموارد. و ليس الحل بإنشاء مؤسسات و مراكز بأبنية فخمة و تأثيث عال و تجهيزات تقنية حديثة و ليس في استيراد التكنولوجيا المتقدمة، وإنما في نهضة حضارية تنموية مدروسة تنبع من احتياجات البيئة المحلية و تحقق ما يصبو اليه كافة أفراد المجتمع.
و يجب التأكيد على نشر الثقافة و المعرفة و التقنية المعلوماتية ويجب الاهتمام الكبير بالعقول و تطوير البحث العلمي وذلك من خلال توفير بنيته التحتية التي تبدأ بالعقل المنظم مروراً بالمؤسسات البحثية وانتهاء بالتقنيات الضرورية و ربطها بحاجات المجتمع التنموية. و الضرورة تقتضي أن تنزع الأمة عنها فكرة عدم القدرة التي أصبحت وسيلة لإخماد حيويتها و شدها الى الوراء. و الأمم تنبع قوتها من إرادتها وتلك هي العبرة الأكبر عبر كل الأزمنة قديماً وحديثا.
عثمان محسن عثمان
صحيفة الوطن الليبية