كانت دهشة المتطوعات والمتطوعين لمساعدة اللاجئين السوريين عند وصولهم إلى كندا، وتحديدا مَن وصل منهم الى مونتريال، أكبر من أن يستطيعوا السيطرة على تعابير وجوههم كي لا تظهر ويراها الناس، وكانت حبالهم الصوتية تتقطع إلى تمتمات غير مفهومة وهم يفسّرون لمعارفهم حالة الدهشة التي أعقبها شلل وإرهاق، والتي أصابتهم، بعد أن سمعوا اللاجئ السوري يصرح قولا وكتابة بالمبلغ المالي الذي يحمله في حقيبته.
قال الرجل، ردا على سؤال موظف الهجرة الكندي: هل معك مال تصرح به؟ قال اللاجئ دون تردد: نعم، معي مليون ونصف المليون من الدولارات الأمريكية.
كانت السيدة المتطوعة للترجمة من أصول مغاربية، لم تصدق ما سمعته، فقد كانت أحيانا لا تفهم بعض المفردات في اللهجة السورية، لذلك أعادت طرح السؤال على اللاجئ، قبل ترجمة جوابه، كي تعطي الرجل فرصة لتصحيح المعلومة التي خرجت من بين شفتيه، ولكن الرجل كان واثقا ومصرا على جوابه الذي كرره، عندها ترجمت الجواب لموظف الهجرة.
حدث صمت رافقته دهشة، يمكن ملاحظتها بسهولة في العيون الملونة، ثم خرجت مفردات من فم الموظف، رغم نعومة وسلاسة اللغة الفرنسية، أشبه بالحشرجة قائلا: أين هم؟ فأشار اللاجئ، بعد ترجمة السؤال، إلى حقيبتين أمامه: إنهم هنا، داخل الحقيبتين، هل تريد أن أعدهم أمامكم؟
سُمع صوت ضجة في القاعة ثم توقف الموظف عن العمل ونهض عن كرسيه، بعد أن وجّه كلامه للمترجمة كي تترجمه، قائلا: سأعود بعد دقيقة.
كان على الطاولة الأخرى غير البعيدة، وفي القاعة نفسها، موظف هجرة آخر ومترجم متطوع من أصول شرق أوسطية ولاجئ ثلاثيني دون أي حقيبة، وقد وجه الموظف السؤال نفسه المكتوب في التصريح الذي سيوقعه كل لاجئ، فأجاب اللاجئ: ليس معي أي قرش.
تصرف المترجم وترجم القرش بـ”السنت”، وهو أصغر وحدة نقدية كندية، فما كان من موظف الهجرة إلاّ أن فتح درج مكتبه وأخرج منه 45 دولارا وناولها للرجل بعد أن سجلها في تصريحه. خرج المترجم عن حياده سائلا موظف الهجرة بنبرة فيها عتب: ماذا ستفيده هذه الدولارات، إنها بالكاد تكفيه ثمن سندويشات اليوم؟ ردّ الموظف عليه: وماذا تريد، هل أدفع له من جيبي؟ هذا هو المبلغ الذي حددته له الحكومة.
صمت المترجم، وأخرج من جيبه ما يحمله من نقود فكانت ثلاث قطع كل واحدة من فئة العشرين دورا قدمها للاجئ.
شخصت العيون باتجاه الموظف الذي لم يستطع تحمل مسؤولية ملايين اللاجئ السوري، فعاد إلى القاعة بصحبة مديره، الذي بادر إلى سؤال الرجل، الذي وصل ضمن المبادرة الكندية لاستقبال 25 ألف لاجئ سوري: هل صحيح أن معك هنا مليون ونصف مليون دولار أمريكي؟ قال السوري: نعم يا سيدي، هل هذا ممنوع؟
قال المدير: لا، ليس ممنوعا، ولكن عندي فضول أن أعرف كيف استطعت تهريبهم إلى الطائرة التي أقلتك الى مونتريال؟ قال الرجل: الأمر بسيط يا سيدي، كلفني ذلك عشرة آلاف دولار دفعتها في مطار بيروت، ولا يزال عندي خمسة وعشرون مليون دولار أخرى سأحولها إلى هنا عبر البنوك، عندما أستقر.
قال المدير قبل أن ينصرف: أهلا بك هنا، ثم أشار إلى الموظف أن ينهي أوراق الرجل.
وبما أن القانون لا يسمح للاجئ الذي يحمل معه أكثر من أربعة آلاف وخمسمائة دولار بالاستفادة من مساعدات الدولة، التي هي عبارة عن جاكيت ثلج وحذاء وقبعة صوفية، فقد تم حرمان اللاجئ المليونير منها، لعدم انطباق الشروط عليه، بالإضافة إلى الخمسة والأربعين دولارا، لمن لا يملك “أي قرش”.
في فترات الاستراحة، كان المتطوعون العرب للترجمة نساء ورجالا، يستعيدون قصة المليونير السوري، ويسخرون من حماستهم للتطوع المجاني لخدمة اللاجئين السوريين، فهم، رغم أن أكثرهم بالكاد يحصل على معيشته من ممارسة مهنة الترجمة، لم يترددوا في تلبية نداء التضامن مع المعذبين السوريين، وكان في ذاكرتهم صور البؤساء في مخيمات اللجوء في الأردن ولبنان وتركيا.
ولم يخطر ببال أحدهم أنه سيقوم في أحد الأيام بالترجمة المجانية لمليونير، حتى ولو كان “لاجئا”، ما كان يعزيهم أنهم صادفوا حالة واحدة بين مئات الحالات التي قاموا بالترجمة لهم، إلا أن قصة المليونير “الأحمر” هي التي كانت حاضرة دائما في أحاديثهم.
الصورة السورية في وضعها الحالي المحلي والإقليمي والعالمي هي صورة سوريالية بكل ما عناه “دالي” بسرياليته.
ففي لوحات سلفادور دالي، نجد الأعضاء البشرية موزعة بطريقة لا تخطر بالبال، وليس هناك أي رابط منطقي لهذا التوزيع، إنك أمام خرافة العقل البشري، الذي يصبح معقولا في المشهد السوري، حيث التاريخ يجاور المستقبل ويشده من شعره، والدين مبتورا بحد سيف فقد قبضته، والايديولوجيات تسبح في النفط، والطائرات تهاجم الفئران، وطفلا يسقط طائرة “بنقيفة”، وحقيبة فيها مليون دولار بجوار جثة معروضة للبيع بخمسين دولارا، بالمختصر، حيث عالم دالي الحقيقي في سوريا الذي يزيدها التدمير قربا منه.
وقبل أن أختم هذياني هذا، أريد القول إنني لست ضد الأثرياء، ولكن لم أستطع تجاهل السؤال: لماذا تأخر هذا المليونير السوري بالهرب مع ماله من سوريا؟ هل كان يراهن على شيء ما؟ هل فقد الأمل في انتصار النظام السوري فقرر الاستفادة من “الأمم المتحدة”، ومن الضمانة التي قدمها له أقرباء في كندا، فاستقل طائرة على حساب الحكومة الكندية كي يصل إلى كندا؟
لن أذكر مليارات السوريين التي حصلت على لجوء في بنوك الغرب، في الوقت الذي يجهد الآن هذا الغرب نفسه في تشويه صورة السوري “المعتر” الذي باع ما تحته وفوقه، وغامر بحياته، فقطع البحار والجبال والسهول والحدود كي يجد الأمان والترحيب الذي وجدته مليارات السوريين، ولكن الخيبات كانت بانتظاره، وتشويه السمعة ووسمه بالإرهاب والمغتصِب، حتى لو كان طفلا مات غرقا على شواطئ حلم السعادة والإنسانية وحقوق الإنسان الأوروبية.
لذلك لا لوم على المترجمين العرب وخيبتهم لخدمتهم المجانية لمليونير سوري، سقط سهواً، في سلة اللاجئين.!