بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة الشيخ هذا الشهر تناولت في ظاهرها قضية من القضايا التي تتعلق بالشأن الليبي الداخلي وإن كان بالإمكان إسقاطها أيضا حتى على بعض دول الجوار الأخرى، لكن ما دفع الشيخ لتناول المسألة أنها ظاهرة منتشرة في بلادنا بصورة خاصة في أوساط أهل العلم بجميع تخصصاتهم. فما تسأل عن مرفق من المرافق وإلا تجد من أصحاب الشهادات وذوي الكفايات العالية فيه يشتغلون خارج البلاد ويعطون خبراتهم لغير أبناء بلدهم، ليس لأن البلد ليست في حاجة إلى خبراتهم، لكن إما لأنها لم تولهم الاهتمام الذي ينبغي لهم وبتخصصاتهم أو أنهم رغبوا عنها لأسباب أخرى منها ما يمكن الإفصاح عنه ومنها ما لا يظهر إلا لمن خبرهم واطلع على أعذارهم!! وما زلنا نسمع أن عدد الاستشاريين المتخصصين من الليبيين في أوروبا وحدها ـ دون نظر لبقية الدول العربية والقارة الأمريكية ـ يفوق ما يمكن توقعه.
وقد تناولت الكلمة النقاط الآتية:
شح الخبرات الليبية بالداخل، استضافة الدعاة، تفوق الخبرات الليبية بالخارج، أسباب العزوف عن العودة متعددة، أولا: ما يرجع من الأسباب إلى الخبرات الموجودة بالخارج نفسها، ثانيا: ما يرجع من الأسباب إلى ثقافة الناس، ثالثا: مما يرجع من الأسباب إلى البلد، الحس الأمني تجاه المقيمين بالخارج.

أسأل الله العلي العظيم أن يبرم لبلاد المسلمين أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويذل فيه أهل المعصية، وأن يوفقنا جميعا لما فيه خير البلاد والعباد.

مشرف الموقع
أبو الحارث، سهيل


بسم الله الرحمن الرحيم
الخبرات الليبية في الخارج

شح الخبرات الليبية بالداخل:
ليس غريبا أن تكون أعدادٌ من علماء بلد في بلد آخر، لأن بلدانهم الأصلية كثافتها السكانية كبيرة، والمنافسة بين ذوي الخبرات العالية فيها شديدة، لوفرة أعدادهم، وقلة أماكن احتوائهم، هذا الوجود للخبرات بالخارج يكون مقبولا إن لم يكن له أسباب أخرى مفرّطة في مصلحة الوطن، طاردة للخبرات، قائمة على الظلم والفساد الإداري، والمعاملات السيئة، واحتقار العلماء وإذلالهم، على خلاف التكريم والحفاوة بهم التي يجدونها في غير أوطانهم.
لكن العجيب حقا أن بلدا مثل ليبيا يعاني من شح في الخبرات والكفايات العالية، يعزف أبناؤها من ذوي الخبرات عن الرجوع إلى الوطن، في الوقت الذي يستضيف البلد من الخارج أعدادا كبيرة منها في التخصصات المختلفة، سواء على مستوى المؤسسات الخاصة، مثل المصحات، وشركات الأموال، وأعمال الهندسة والاتصالات والاستشارات الفنية، أو على المستوى العام في مستشفيات الدولة ومؤسساتها المختلفة، في الإنشاء والتعمير والمال، بل حتى في الدعوة والتوجيه الديني والإرشاد.
استضافة الدعاة:
تكرر في السنوات الأخيرة ـ على خلاف المعتاد ـ دعوة مجموعة من الدعاة وعلماء الشريعة، فاستضاف القائمون على التوجيه الديني مشكورين العديد من خيرة العلماء من بلاد مختلفة لإلقاء محاضرات وندوات وعقد لقاءات مع الشباب، وعلى الأخص من يحمل منهم أفكارا متشدّدة، وذلك للرجوع بهم إلى سواء السبيل، وجماعة المسلمين، ولتحسين صورة البلد في الخارج التي طالما حمل عنها الناس انطباع معاداة التدين والسلفية، فكانت الرغبة في دعوة العلماء للتوجيه والإصلاح، وملء الفراغ الروحي والأخلاقي، وتصحيح السلوك، وترشيد المنهج، بعد أن اكتوت البلد كغيرها من بلاد العرب والمسلمين بنار التطرف والتشدد، جرّاء اتباع سياسة تجفيف المنابع، التي تبعتها عدد من الدول العربية والإسلامية، أو جراء اتباع سياسة فرض الرأي الواحد، وإقصاء الخلاف الفقهي المعتبر في بعض البلاد الأخرى، باسم اتباع الكتاب والسنة.
تفوق الخبرات الليبية بالخارج:
الخبرة الليبية بالخارج التي يتوق العديد منها إلى خدمة بلدهم ونهضته، هي مرحب بها معززة في عدد من البلاد الغربية والعربية، تقود هناك مؤسسات مختلفة في مجالات متنوعة؛ أدبية، وإعلامية، ومالية، وعلمية، وعلاجية، وتقنية، وإدارية، وبحثية، تُهيأ لها الظروف والإمكانات الداعمة للتفوق والنجاح والابتكار والعطاء، والاستفادة من خبراتها، في الوقت الذي تتعاقد فيه جامعاتنا ومؤسساتنا العلمية والبحثية مع أجانب من دول أخرى، بالتكاليف الباهظة، وبخبرة أقل مستوى أحيانا، هذا هو تشخيص الواقع، ظاهرة ليست سوية، لها آثار سلبية كبيرة على البلد على المدى القريب والبعيد، وكذلك على المقيمين في بلاد الغرب من أصحاب هذه الخبرات وعلى أسرهم، ربما بعضهم يدفع ثمنها باهظا، لذا فإن علاجها للحد منها عاجل ومُلِحٌّ.
فأين يكمن الخلل؟ وما السبب في هذا الغلط؟ وما الذي يصد المقيمين بالخارج عن العودة ويرغبهم في البقاء خارج البلد؟
أسباب العزوف عن العودة متعددة:
أسباب العزوف عن البلد متعددة، سأجمل عددا منها، بعضها مسؤول عنه المقيمون في الخارج أنفسهم، وبعضها مسؤولة عنه بلدهم، وبعضها الثقافة السائدة بين الناس.
أولا: ما يرجع من الأسباب إلى الخبرات الموجودة بالخارج نفسها:
ما يرجع من الأسباب إلى المقيمين بالخارج أنفسهم كثير منه مادي بحث تعود منه على النفس حظوظ، وهو على النحو الآتي:
1 ـ ما يتمتع به المقيم بالخارج من إغراء مادي ومرتبات عالية.
2 ـ السلاسة في أداء العمل، القائمة على المنطق والعدل الذي يحفظ لكل أحد حقه، ويقدر له جهده.
3 ـ الانضباط في التعامل، وتحقق الظروف الملائمة لما يتطلبه إنجاح العمل من توفير الخدمات المساعدة، سواء كانت تقنية أو بشرية أو تحفيزية، مما يجعل العامل يرضى عن عمله وجهده.
4 ـ تَعَوُّد الزوجة والأولاد على نمط من الحياة مريح، تسعى فيه الخدمات والترفيه والكماليات إليهم سعيا، على حين يشقى غيرهم ـ ممن بقى في البلد ـ ويكد للوصول إلى الضروريات، وهذه المزايا مجتمعة يصعب فطن النفس عنها، وتحتاج إلى تضحية، لا يقدر عليها إلا أولو العزم والهمة العالية، ومن يدرك قيمة خدمة المحرومين وإيصال الخير إليهم، وما أعده الله عز وجل من منزلة رفيعة لهم، لا يعدلها صوم النهار ولا قيام الليل، فإن من نفّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ولأن التضحية بما تحبه النفس من مزايا متاحة، إيثارا لخدمة المحتاجين، هو من العمل في سبيل الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: (مَوْقِفُ سَاعَةٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ) (صحيح ابن حبان 10/462).
وقد يتعين رجوع المقيم بالخارج في حالتين:
1 ـ حالة ما إذا خشي على أسرته وأولاده وبناته ـ خصوصا عند بلوغ سن المراهقة ـ من التأثر بسلوكيات الانحلال والانحراف والتحرر من قيود التكاليف الشرعية التي يقتضيها انتمائهم إلى دينهم ومعتقداتهم بسبب الاختلاط والاندماج في مجتمع تحرر من كل القيود الأخلاقية والدينية.
2 ـ حالة القيام بالواجب الكفائي الذي قد يتعين عند عدم وجود من يقوم به في بلده، فإنه يتعين على أهل كل بلد القيام بخدمة قومهم وأهلهم عند نقص من يقوم بذلك بينهم، قال تعالى: (وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة آية 122)، وفي حديث طارق الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: (قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُولُ: ... وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ) (سنن النسائي حديث رقم 2532).
وقد قال صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ومن وفد معه إليه بعد أن أقاموا معه عشرين يوما وظن أنهم قد اشتاقوا إلى أهليهم: (ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ، ... وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ) (صحيح البخاري حديث رقم 605).
ثانيا: ما يرجع من الأسباب إلى ثقافة الناس:
ثقافة الناس لا تزال غير قادرة على التخلص مما يسمى عقدة (الخواجة) حتى لو كان الأجنبي أقل كفاية وأغلى كلفة، فهو الأقدر على حل المعضلات، لما صحب اسمه من شهرة، سببها الأساس انعدام الثقة في ابن البلد، بسبب فساد التنظيم والإدارة العارم، وهذه الشهرة يستفيد منها أصحاب المؤسسات استفادة كبيرة، حتى على المستوى الديني، فإذا أعلن مثلا في مصحة أن هناك زائرا من إيطاليا أو ألمانيا تستضيفه المصحة لمدة أسبوع، ترتفع تكلفة الكشف في العيادة، ويتزاحم الناس على الحجز، ويصعب الحصول على المواعيد، حتى لو كان هذا الإيطالي في بلده مغمورا من الدرجة الثالثة أو الرابعة في تخصصه، وفي الغالب هو كذلك، لأن اللامع في بلده حقا في مثل هذه التخصصات لا يسمح له وقته بإقامة أسبوع لإجراء كشوفات في ليبيا، مهما بُذل له من إغراء، إلا أن يكون تاجرا.
ثالثا: مما يرجع من الأسباب إلى البلد:
1 ـ يرى المقيمون في الخارج ويسمعون عمن كان حالهم كحاله، ثم أرادوا أن يُضحوا بمراكزهم ويرجعوا إلى البلد، وبعد رجوعهم عَضُّوا أصابع الندم، حيث كان بعضهم في مراكز مرموقة للخبرة في البلاد المتقدمة يُعَدُّون من الرواد المعدودين على الأصابع دوليا في تخصصاتهم، يجدون الرعاية والتقدير والتكريم والإشادة بجهودهم، وإغداق الأموال عليهم، ويقارنون ذلك بما عاشه من رجع منهم إلى بلده من مرارة وذل، حيث تم تهميشه وتجاهله، ولم يُمَكَّن بعضهم حتى من العمل بعد انتظار طويل، لعدم قدرتهم على توفير كامل الأوراق المطلوبة، وبعضها مضحك أو تعجيزي، كعجزهم عن استخراج (علم وخبر) لأن من بيدهم إصدار هذه الورقة مسحوبة منهم الأختام منذ سنين، والورقة لا تزال مطلوبة، أو عدم قدرتهم على حصول ما يثبت الوضع العسكري، أو غير ذلك.
2 ـ الحس الأمني تجاه المقيمين بالخارج:
كل من أقام بالخارج سنين طويلة هو متهم بالانتماء المعادي للبلد، وقد يكون المسكين بعيدا كل البعد عن الصراعات والسياسات، ولا ناقة له ولا جمل فيما يدور ويحور، وهذا الحس الأمني المبالغ فيه يحوّج المقيم بالخارج إلى وقت طويل لاستخراج جواز سفر من إحدى السفارات، لو عزم على ذلك، ولا تستطيع تلك السفارات أن تقدم له أي ضمانات تحميه، بل لا بد له من وسائط وشفاعات كلها شخصية، وعلاقات خاصة تتولى ترتيب الأمور له واستقباله، بالإضافة إلى تكليفه بكتابة رسالة شكر وثناء على الجهة الأمنية التي تحميه عند دخوله وخروجه، وربما كتابة اعتذار عما قد لا يكون هو أساسا مدانا به ولا اقترفه، الأمر الذي لم يتعوده في وظيفته التي هو مستريح فيها تمام الراحة، خصوصا إذا كان خبيرا في بلاد غربية؛ في أوربا أو كندا أو أمريكا.
مثل هذه الإجراءات الأمنية هي معوقات ومثبطات طاردة لأبناء الوطن من ذوي الخبرات المخلصين الراغبين في الرجوع إلى بلدهم، وعلى الأخص عندما تقابلها حفاوة وتقدير وحفاظ على الكرامة من البلاد المقيمين بها.
3 ـ ما لاقاه بعضهم من زملائه الذين لم يتأهلوا تأهيله، ويخشون بتمكينه وعودته على مراكزهم وكراسيهم، فيسعى بعضهم بكل ما أوتي من (معارف) وعلاقات نفاقية أو كيدية لدى من بيدهم قرار التعيين لإبعاده، حتى لا يفقد الشهرة أو الكرسي، ولا يتردد بعضهم لو استدعى الأمر في الوشاية به حتى أمنيا أحيانا، خصوصا إن كان تخصصه في الدراسات الشرعية، فمثله هو موضع تهمة أساسا، حتى لو لم يش به أحد، أما لو قيلت فيه كلمة أو كانت أوراق تخرجه من جامعة مشبوهة ـ حسب التصنيف الأمني ـ أو من بلد غير مرضي عنها ـ حسب التصنيف الأمني أيضا ـ فيُرفض جملة وتفصيلا، ولا يُبحث عنه، وكل من تقع في يده أوراقه، أو يُكَلَّم فيه يتبرأ منه، مع أن الإدارة أو الجامعة في أمس الحاجة إلى تخصصه، وهذا التبرؤ ليس له سبب سوى خشية أن يُحسب على المسؤول الذي قبل أوراقه، فتجده لا يكلف نفسه حتى السؤال عنه، والتحقق من أمره، كما تمليه عليه الأمانة والديانة والمسؤولية التي تَحَمَّلها، بل ربما يزايد أمام من هو فوقه ليتقرب إليه، متظاهرا بالحرص على أمن البلد، فيثير حول هذا أو ذاك شبهة أو علامة استفهام، ليس له عليها أثارة من علم ولا برهان، فيبوء بإثمها، وكم من كلمة لا يُلقي أحدنا لها بالا يهوي بها قائلها في النار سبعين خريفا كما صح عنه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور آية 15).

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
04 صفر 1432 هـ
الموافق 09 / 01 / 2011
--